بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله على ما أنعم و له الشكر على ما ألهم .
و أفضل الصلاة و أزكى التسليم على خير الخلائق أجمعين محمد و آله الطاهرين .
و اللعن الدائم المؤبد على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين .
قال الله عزّ وجلّ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران : 110]
النقطة الأولى: الأمة هي مجموعة من الأفراد بينهم رابط يجمع بينهم, لذا قد تنقسم الأمة الواحدة أتباع الرسول الواحد إلى أمم, كما في قوله تعالى ( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً [الأعراف : 160], وقال سبحانه (مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ) [المائدة : 66]. وحقيقة وواقع الأممية مضافاً إلى اللفظ أيضاً لا يختصان بالبشر قال تعالى (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم) [الأنعام : 38].
النقطة الثانية: أما قوله (كنتم) فهناك من يشتبه عليه الحال فيطرح أن هذا التفضيل قد انقضى في الزمن الماضي, والحق أن (كان) الناقصة – في حد ذاتها- لا تدل على تبدل الحال في أي جملة كانت, نعم هي تشعر بالتغير والتبدل, ولكن هذا الإشعار ليس حجة ولا دليلاً لا سيما مع قيام الدليل على عدم التبدل.
توضيح ذلك: عندما تقول (كان زيد قوياً) فهذا لا يدل على أنه ضعيف في الوقت الراهن. نعم, قد يشعر بذلك, ولكنه لا يعد دليلاً ولا ظهوراً للكلام. وهكذا عندما نسمع قوله (هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً) لا نفهم من ذلك الانقلاب والتبديل بمعنى أنه كان في الزمان الماضي بشراً رسولاً ولم يعد كذلك عند نزول الآية.
وهناك وجوه أخرى ذكرها العلماء, وكلها تصب في نفس النتيجة وهي استمرارية هذا الوصف وعدم انقطاعه ما دامت الأمة محافظة على أسباب هذا التفضيل, فراجع كتب التفاسير.
النقطة الثالثة: هناك روايات تفسّر خير أمة بأهل البيت – عليهم السلام- كما هناك آراء عند أهل السنة تفسّر الآية الكريمة بالمهاجرين أو بمجموع الصحابة أو بعضهم. ولكن الرأي الشائع في هذه الآية الكريمة أنها تفضيل لأمة رسول الله – صلى الله عليه وآله – على بقية الأمم, ولا شك أن أفضل هذه الأمة بعد رسولها هم أهل البيت الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
النقطة الرابعة: تختلف دوائر التفضيل سعة وضيقاً, ولذا قال الله تعالى (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة : 47] ولكن بقرينة بقية الأدلة الشرعية فالمراد هو التفضيل على العالمين في ذلك الزمن وتلك الحقبة لا مطلقاً, فالأمة المحمدية أفضل من بني إسرائيل بلا شك.
وهكذا قوله سبحانه (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) [آل عمران : 42] الله تعالى اصطفى مريم على نساء عالمها, وفاطمة أفضل منها. أما روايات الشيعة في ذلك فهي أوضح من أن تذكر, وأما روايات أهل السنة فنذكر منها رواية أخرجها البخاري في صحيحه قال رسول الله – صلّى الله عليه وآله- فاطمة سيدة نساء أهل الجنة.
النقطة الخامسة: التفضيل إنما هو للمجموع لا للجميع.
ليس المراد بالآية الكريمة أن جميع أفراد هذه الأمة أفضل من جميع أفراد الأمم السابقة, فالتفضيل ليس لكل فرد فرد, بل للمجموع, أي أنه تفضيل إجمالي. وهذا لا يمنع أن يكون في الأمم السابقة أفراد أفضل من كثير من أفراد هذه الأمة.
النقطة السادسة : لو نظرنا إلى سيرة الأمم السابقة التي حكاها القرآن الكريم سنجد فيها الكثير من اللجاج والعناد: ولنذكر موقفين:الموقف الأول: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً) [النساء : 153].
الموقف الثاني: (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [المائدة : 73].
نعم, في المسلمين من قال بالتجسيم أو الجبر أو ما شابه, ولكنها لا تعدو كونها فرقاً لا تمثل السواد الأعظم بخلاف مواقف الأمم السابقة, حيث ما زال السواد الأعظم من النصارى إلى وقتنا الراهن يصرون على التثليث.
النقطة السابعة : في الواقع أن الفخر كل الفخر هو رسول الله – صلى الله عليه وآله- , ومن بعده أهل البيت – عليهم السلام- , وكرامة لهذا الرسول العظيم فقد أكرم الله تعالى هذه الأمة بخصال ومميزات في الدنيا والآخرة, فأصبحت بجهد وبذل الرسول وأهل بيته خير الأمم.
النقطة الثامنة: لا أحبذ أن نسهب في ذكر مساوئ الأمم السابقة أو الآخرين من باب المفاخرة, فالقرآن الكريم عندما ذكر مساوئ الأمم الأخرى ذكرها لنتعظ بها ونبتعد عن تلك الخصال والصفات لا لنفتخر بها. والقرآن الكريم عندما ذكر تفضيل هذه الأمة ذكر أسباب وعوامل التفضيل لا لنفتخر ونباهي ونمضي الوقت في ذلك بل لنجذر عوامل التفضيل ونتمسك بها ونعمل بها على جميع الأصعدة.
هناك ثلاثة مبادئ وأسس للرفعة والتفضيل:
الأول: الأمر بالمعروف.
الثاني: النهي عن المنكر.
الثالث: الإيمان بالله تعالى.
ويمكن أن ننظر إليها من جانب آخر فتنصهر الثلاثة في بوتقة واحدة, فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهان لعملة واحدة, والإيمان بالله تعالى هو روح وقلب تلك العملة وذلك الأساس.
وكما أن القرآن الكريم مدح أناساً لقيامهم لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, كذلك ذمّ أقواماً لتخلفهم عن ذلك, قال عزّ وجلّ (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [78] كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ[79]) سورة المائدة.
وقال سبحانه (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [المائدة : 63]
إذن هذا الواجب العظيم تخلف عنه حتى الربانيين والأحبار فلم ينهوا عن قول الإثم وأكل السحت, فكيف ببقية الأمة.
والحاصل:
كلما تمسكنا بهذا الواجب العظيم قلباً وقالباً وروحاً كلما اقتربنا من الله تعالى أكثر وكنا أفضل وأكمل.
النقطة التاسعة : الحكم الشرعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال الله سبحانه ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )
المشهور بين الفقهاء أن كلمة (من) في الآية الكريمة تبعيضية, فيكفي قيام بعض الناس بهذا الواجب ممن بهم الكفاية, ولذلك قالوا: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي, إذا قام به من به كفاية سقط عن البقية.
وذهب بعض الفقهاء كالسيد السيستاني إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عيني على الجميع قولاً وفعلاً, وأما الوجوب الكفائي فهو للمرحلة الثالثة منه حيث يعمل فيها القدرة كالضرب والحبس حسب الشروط الشرعية.
النقطة العاشرة : إذا لم تقم الأمة بهذا الواجب العظيم فالغضب الإلهي يشمل الجميع, وعندما يقوم به البعض دون بعض ويريد الله تعالى إنزال الغضب على أولئك فالغضب لا يشمل القائمين بذلك الواجب. وفي هذا المضمون عدة روايات شريفة, منها: قال : سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول : لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم ولا يستجاب لهم.
النقطة الحادية عشرة : وضع الأمة في هذا الزمن:
روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ، ولم تأمروا بمعروف ولم تنهوا عن منكر ؟ ! فقيل له : ويكون ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم ، وشر من ذلك ، فكيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ؟ فقيل له : يا رسول الله ، ويكون ذلك ؟ قال : نعم ، وشر من ذلك ، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً ؟ !
والذي أراه أن الأمة الإسلامية وصلت في كثير من النواحي إلى المرحلة الثالثة, فأصبحت ترى المعروف منكراً, والمنكر معروفاً, وبذلك تخلف مجموع أفراد هذه الحقبة عن كونهم خير أمة.
النقطة الثانية عشرة: كيف نمارس هذا الواجب؟
قال الصادق ( عليه السلام ) : إنما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال : عامل لما يأمر به، وتارك لما ينهى عنه، عادل فيما يأمر، عادل فيما ينهى، رفيق فيما يأمر، رفيق فيما ينهى.
وقد ذكر بعض الأكابر – قدّس سره- إن من أعظم أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأعلاها وأتقنها وأشدها، خصوصاً بالنسبة إلى رؤساء الدين أن يلبس رداء المعروف واجبه ومندوبه، وينزع رداء المنكر محرّمه ومكروهه، ويستكمل نفسه بالأخلاق الكريمة، وينزهها عن الأخلاق الذميمة، فإن ذلك منه سبب تام لفعل الناس المعروف، ونزعهم المنكر خصوصاً إذا أكمل ذلك بالمواعظ الحسنة المرغبة والمرهبة فإن لكل مقام مقالاً، ولكل داء دواءً ، وطب النفوس والعقول أشد من طب الأبدان بمراتب كثيرة، وحينئذ يكون قد جاء بأعلى أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فتكون دعوته بامتثاله وتطبيقه قبل دعوته بلسانه, لئلا ينطبق عليه قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [2] كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [3]) سورة الصف.