دراسات نقدية حول مصاحف ورش المطبوعة
ولعل مما يخفى على غير المتخصصين أن المصاحف المطبوعة ـ باستثناء ما تقدم عن مصحف حفص عن عاصم ـ قد اشتملت على كثير من التركيب وحوت كثيرا من القياس الذي هو قراءة القرآن بأداء غير منزل من عند الله أي لم يقرأ به النبي .
ولمناقشة ذلك فلنأخذ مثلا مصحف المدينة المنورة برواية ( ورش عن نافع ) كما هو مسطور في المصحف، الذي تمت طباعته بمجمع خادم الحرمين الشريفين تحت إشراف وعلى مسؤولية اللجنة العلمية التي تعدّ من خيرة أئمة القراءات في هذا العصر .
ولقد سجلت ملاحظات قديمة منذ سنة 1998 م على هذا المصحف هي منشورة وقد سلمتها لمدير المعهد السعودي في انواكشوط الدكتور هزاع الغامدي في سنة 2002 وسلمتها بيدي لبعض أعضاء اللجنة العلمية.
وهذه بعض الملاحظات المذكورة :
إن اللجنة العلمية لم تبيّن طريق المصحف بالتحديد ، وإنما قالت من طريق الأزرق دون بيان أي طرقه الخمسة والثلاثين ؟ من طريق الطيبة ، مما يعني أنه من طريق الشاطبية والتيسير على الأرجح وفي أحسن الاحتمالات ، إذ التزمت اللجنة العلمية طريق الشاطبية والتيسير عن الأزرق عن ورش في أكثر ضبط أداء كلمات من القرآن ومنها :
1. تقليل ذوات الياء مطلقا أي غير رؤوس الآي وجها واحدا كرؤوس الآي من السور الإحدى عشرة وكذوات الراء .
2. الـم الله فاتحة آل عمران و الـم أحسب فاتحة العنكبوت بالإشباع
3. تقليل جبارين
4. تقليل ومحياي وإسكان ياء الإضافة فيها حالة الوصل وهو صريح طريق الخاقاني للأزرق التي عليا مدار التيسير والشاطبية
وجميع ذلك مخالف لطرق ابن نفيس الذي اقتصر على الفتح في ذوات الياء غير رؤوس الآي في السور الإحدى عشرة كما في النشر (2/50) إذ ذكر الفتح فيها لصاحب الكافي (أي ابن شريح ) وصاحب التجريد (أي ابن الفحام) ولابن بليمة وهؤلاء الثلاثة من طرقهم عن الأزرق قراءتهم على ابن نفيس عن أبي عدي عن ابن سيف عن الأزرق كما في النشر(1/108) .
وليس لابن نفيس في جبارين إلا الفتح كما في النشر (2/58) .
ولا يخفى اعتماد اللجنة العلمية على الأداء الموريتاني إذ حوت اللجنة العلمية رجلين من الشناقطة أحدهما من علماء القراءات .
وكذلك اعتمدت اللجنة العلمية على رسم وضبط كتاب ( المحتوى الجامع رسم الصحابة وضبط التابع ) لمؤلفه الشيخ الطالب عبد الله الجكني الشنقيطي فيما اعتمدت من كتب الرسم غير أن بصمات الكتاب المذكور واضحة في :
1. إثبات ألف أو إطعام في البلد
2. ضبط اللائي
3. أل الوصل حالة الابتداء
ولا يخفى اعتماد أداء الشناقطة قديما على طريق ابن نفيس للأزرق عن ورش وهي المخالفة لطريق الشاطبية والتيسير عنه في كثير من الأحرف ومن أمثلته :
1. جعل الهمزة الثانية من المتفقتين في كلمتين حرف مدّ وهو الذي جرى عليه عمل اللجنة المذكورة في مصحف ورش وهو مخالف لطريق الشاطبية والتيسير أيضا رغم الوجه الثاني في الحرز حكاية لا أداء كما هو قوله ( وقد قيل محض المدّ عنها تبدلا ) اهـ
2. إبدال الثانية حرف مدّ في قوله هؤلاء إن وقوله على البغاء إن كما في النشر (1/385)
ولا يخفى أن طريق الشاطبي في الحرز وطريق الداني في التيسير هي قراءة الداني على شيخه الخاقاني وتلك فقط بإبدال الحرفين في البقرة والنور ياء خالصة مكسورة ، أما وجها الشاطبي الآخران فمن زياداته غير المقروءة .
ولعل هذا هو الذي جعل اللجنة العلمية لا تحدد طريق الأزرق في مصحف ورش ، لكن لا بدّ من تحديده لما فيه من التحرير والأمانة العلمية ولما في تركه من تركيب الطرق الذي لا يليق بأئمة القراءات .....
وكذلك يلاحظ على اللجنة العلمية ضبط أداء الكلمات التالية :
1. ماليه هلك في الحاقة بالإدغام وهو غريب حقا من اللجنة العلمية إذ ضبطت قبله كتابيه إني بالسكت وعدم النقل وهو الرواية والنص مثل السكت وعدم الإدغام في ماليه هلك ، بل إن إدغام ماليه هلك من القياس على نقل كتابيه إني الذي هو من القياس أيضا كما بينته في بحثي إثبات تواتر القرآن دون الحاجة إلى اللهجات والقياس في القراءات .
2. يـس والقرآن بالإظهار وهو عجيب من اللجنة ، بل لا يصح تصوره إلا أن يكون مصحف ورش المطبوع في مجمع خادم الحرمين الشريفين من غير طريق الشاطبية والتيسير إذ ليس لهما غير الإدغام بغنة فيها كما في التيسير (ص 33) وصريح الشاطبية وكما في النشر (2/17)
نعم إن الإظهار في فاتحة يـس هو طريق ابن الفحام عن شيوخه عن الأزرق ومنهم ابن نفيس ، ويلزم مع الإظهار في يـس فتح جميع ذوات الياء غير رؤوس الآي من السور المعلومة وغيره من المسائل التي اتبعت فيها اللجنة العلمية طريق الحرز وأصله .
3. ن والقلم بالإدغام وهو المخالف لطريق الشاطبية والتيسير إذ هي فقط بالإظهار كما قال في النشر (2/18) "وقطع له بالإظهار صاحب التذكرة والعنوان وقال في الهداية إنه الصحيح عن ورش ، وقال في التيسير إنه الذي عليه عامة أهل الأداء وأطلق الوجهين جميعا عنه أبو عبد الله ابن شريح وأبو القاسم الشاطبي " اهـ
قلت : وقد خرج الشاطبي رحمه الله عن طريقه حين أدغم اتحة القلم لأن أداءه خارج التيسير عن الأزرق هو من طريق الخياط عنه وهو من قراءة الداني على الخاقاني وهذه فقط بالإظهار كما في التيسير (ص 183 ) وكما في التعريف في اختلاف الرواة عن نافع للداني في باب الإظهار والإدغام وفي فرش يـس ، ولا يخفى اعتماد الداني في التعريف على الخاقاني للأزرق مما يعني خروج الشاطبي عن طريقه حين أدغم فاتحة القلم .
قلت : والغريب أن ضبط المصحف المذكور خالف بين الحرفين حين أظهر فاتحة يـس وأدغم فاتحة القلم والصواب هو العكس في طريق الشاطبية والتيسير .
نعم إن الإدغام في فاتحة القلم لابن نفيس إذ هو لابن الفحام في التجريد .
4. ها أنتم بالإبدال والإشباع للألف بين الهاء والنون من غير همزة وهو أحد وجهي الشاطبية غير أن طريقها هو وجه قصر الهاء أي حذف الألف بعده واللفظ بهمزة بين بين فقط وهي قراءة الداني على الخاقاني كما اقتصر عليه في التيسير (ص 88) في فرش آل عمران وكما اقتصر عليه المالقي شارح التيسير (4/222) وكما في النشر (1/400)عنه ، وكما قدّمه القاضي في البدور (ص 63) وصاحب غيث النفع (ص 176 ) ، وقول الشاطبي : " وكم مبدل جلا " اهـ إنما هو للحكاية والعلم لا الأداء من طريقه إذ ذكر قبله الأداء والطريق بقوله " ولا ألف في ها هأنتم زكا جنا ـ وسهل أخا حمد " اهـ أي حذف الألف بعد الهاء لقنبل والأزرق ، وتسهيل الهمزة بين بين لنافع وأبي عمرو مما يعني أن ليس للأزرق في الحرز غير ما كرنا .
والعجيب أن اللجنة العلمية خالفت طريق الشاطبية والتيسير وخالفت طريق ابن نفيس أيضا في هذا الحرف إذ هي بإثبات الألف وإثبات همزة بين بين مثل قراءة أبي عمرو وأبي جعفر ورواية قالون كما في النشر (1/400) إذ ذكرها ضمن ما للتبصرة والكافي والتجريد والتلخيص لابن بليمة وطريقهم هي قراءتهم على ابن نفيس .
5. قل ءالذكرين معا و قل ءالله معا و ءالان في يونس بالإبدال والإشباع في غير ءالان وبالإبدال فيها وهو خلاف طريق التيسير والشاطبية إذ هي فقط ببين بين في همزة الوصل والقصر لأنها قراءة الداني على الخاقاني كما في النشر (1/378) وذكر في (1/377) أن الإبدال قراءة الداني على أبي الحسن طاهر بن غلبون مما يعني أن ذكره في التيسير والحرز خروج منهما عن طريقهما ، واختيار الداني هو بين بين كما هي طريقه وكما في المالقي (4/ 241) وكما في النشر (1/377) ، نعم إن الإبدال في الكافي والتبصرة والتجريد كما في النشر (1/377) أي لابن نفيس .
6. اللائي بالإسكان على حالة الوقف أي بياء ساكنة لينة ، والأولى ضبطها حالة الوصل كسائر كلمات القرآن وذلك ببين بين مع القصر كما في التيسير (ص 177 ـ 178) وكما في تحبيره (ص 163) وكما في التعريف للداني وكما في الحرز " وكالياء مكسورا لورشهم " اهـ يعني في حالة الوصل ببين بين وهي هنا كالياء مكسورة إذ هي بين الهمزة المكسورة والياء المدّية وكما في النشر (1/404) وغيره ، فالأولى ضبطها بالكسرة تحت النقطة التي يستدلون بها على التسهيل ببين بين والتنبيه على عدم مدّها بياء وعلى قراءتها في آخر المصحف في الوقف اضطرارا بالإسكان دون الروم (1/408) من النشر أنه بياء ساكنة لينة بعد الألف المشبع من غير همزة تماما ضبطت حالة الوصل في المصحف .
ولما قصدت نشر هذه الملاحظات اليوم في ربيع الثاني 1429 هـ راجعت مصحف المدينة المنورة لرواية ورش فإذا بنفس الملاحظات لا تزال كما هي في طبعة سنة 1416 هـ وسنة 1422 هـ ولم أحصل على طبعة متأخرة عن هذا التاريخ .
غير أن المفاجأة الكبرى أني يوم أمس وجدت نفس الملاحظات في جميع مصاحف ورش التي اطلعت عليها ومنها مصحف ملك المغرب الحسن الثاني المطبوع سنة 1417 هـ ومصحف دار المعرفة المطبوع سنة 1421 هـ ومصحف دار الفكر بيروت المطبوع سنة 1421 هـ
وإنما يعني ذلك من اللجان العلمية تقليد المصحف الأول من غير بحث وتمحيص وتأمل في تحرير الطرق .
ولا لوم على أصحاب القرار السياسي الآمر بإخراج تلك المصاحف إذ ألبسوا اللجان العلمية والمتخصصين في القراءات ثوب الأمانة العلمية .
ولا مناص من الرجوع إلى التحرير والضبط .
قلت : ولو وسعني السكوت لسكت أما والمسألة تتعلق بتصحيح تلاوة القرآن وبتصفية أدائه وتحرير طرقه فلا بدّ من الإعلان إذ التكليف بقدر العلم والأسباب والاستطاعة .
كتب بواسطة الاستاذ :الحسن محمد ماديك
14/ربيع الثاني /1429 هـ